يونس
عليه السلام
...الحمد لله عز وجل فما كنت أظن أن أكمل هذه المقالة لمرض شديد أصابني ، فأصبح يرافقني ألما وينغص علي مأكلي ومشربي ومعاشي ... وما يعلم بي وبحالي إلا الله وحده أسأله ربي مولاي أن يخفف عني ويلطف بي و أن يشفيني ويذهب البأساء والضراء عني فقد طال مرضي وأصابني بالوهن .
فقد كنت أجر قلمي مثقلا في كل ليلة – أحمده ربي على كل شيء – فأبد مستعينا بالله عز وجل أخط سطورا متماوجة لارتعاش جوارحي من قيود التعب و المرض التي تكبلني فما إن أنهي سطرا حتى أعلن الفرح بقهر جسدي والفوز عليه فقدر الله عز وجل بلطفه وماشاء كان وفعل ....
فأسأل الله عز وجل أن يكون ذلك كله له وحده وأن يأجرني وأن يكون ذلك في ميزان حسناتي وتكتب لي في صحائف من نور ...
لست بذلك النوتي الأريب في خوض عباب المعاني المتشابهة و المتشعبة في آيات الله عز وجل فأحداث قصتنا تناولتها مصادر مختلفة تشابكت فيها كثير من الأفكار والآراء وأخرى تضاربت ولكن سأبحر متوكلا على الله عز وجل على سفينتي المتهالكة لأخوض لججها وأسبر غورها و سأتبع خريطة القرآن الكريم في التسلسل الزمني للأحداث التي جرت مع نبي الله يونس عليه السلام لعل الله عز وجل أن يرسيني بفضله ومنه وكرمه لبر الأمان .
وستكون الآيات هي البوصلة التي سنوجه أشرعتنا بناءا عليها وننطلق ونستدل ونسترشد بها في تفصيل رحلة يونس عليه السلام ففيها خريطة الطريق التي وصفت من خلالها الرحلة التي عبر من خلالها نبي الله يونس في دعوته وسأتجاوز عن بعض النقاط أو أوجز بها كثيرا وخاصة تلك التي تكلمت عنها في الأجزاء السابقة ...
بسم الله نبدأ
تسلسل الأحداث
قصة نبي الله يونس عليه السلام في القرآن الكريم
وَإِنَّ يُونُسَ (وَذَا النُّونِ – الأنبياء ) ( كصَاحِبِ الْحُوتِ – القلم ) لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - الصافات
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ - الأنبياء
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ - القلم
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ - الصافات
إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ - القلم
فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ - الأنبياء
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ - الصافات
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ - الأنبياء
لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ - القلم
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ - الصافات
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ - القلم
وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ - الصافات
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ [أ] - الصافات
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ - يونس
من هنا ننطلق
﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٣٩﴾إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿١٤٠﴾ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴿١٤١﴾ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿١٤٢﴾ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴿١٤٣﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴿١٤٤﴾ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴿١٤٥﴾ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴿١٤٦﴾ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴿١٤٧﴾ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ [ب] ﴿١٤٨﴾ الصافات
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ :
فيونس اسمه العلم وذا النون وصف جامع لأحوال وأوصاف اشتهر بها نبي الله يونس عليه السلام ولقب بها
تبدأ قصة نبي الله يونس عليه السلام واصفا له بأنه من المرسلين من بداية رحلته ومن بداية سرد قصته وليس صحيحا أن رسالته بدأت بعد عودته في المرة الثانية لهم وقد وضحنا في الجزء الثاني من هذه السلسلة كيف كانت المغاضبة بينه وبين الملك وحاشيته خاصة وقومه عامة ( لأن البلاء كان سيعم على كل قريته وليس على الملك وحاشيته )
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ :
إذ : ظرف ( لحدث ماضٍ بمعني حين .....فجأة ) ..
أبق : لأنه غاضبهم بسبب دعوته لدين التوحيد فأصبح خارجا على القانون و السيادة و الدين فغادر قومه هاربا خائفا مبتعدا (متماديا في الهرب بعيدا ) من الملك الأشوري ومن سطوته ( وجود عامل ( الخوف أو الشدة في التعامل ) سبب رئيس في الهرب ) .
فيصبح معناها : حين دعى نبي الله يونس عليه السلام لدين التوحيد غاضب قومه فأصبح خارجا على القانون و السيادة و الدين فغادر قومه هاربا خائفا من الملك الأشوري فجأة .
الفلك
من صفاتها
1) الفلك هو وصف لشكلها العام فهو تقريبا يشبه نصف جسم بيضاوي أقرب إلى الكروي يكون بطنها في داخل الماء
2) الفلك المشحون : مجوفة ( مفرغة ) محملة إلى حد الإمتلاء ( السعة القصوى ) بالبضائع أو الناس ( أشياء متعددة ) لنقلهم إلى جهة أخرى محددة
3) الفلك تجري
· حركة الجسم بحركة أشبه ما تكون بالموجية باتجاه خط حركتها ( تتذبذب عموديا باتجاه خط حركتها وإنتقالها )
· كل جسم يجري ( يحمل ثقلا )
· ويتحرك الجسم الذي يجري فوق مائع [ سائل أو غاز ] لأن كثافة الجسم الكلية الذي يجري فوق المائع أقل من كثافة المائع الأسفل منه
4) الفلك مواخر : قوتها المحركة الريح فهي تجري باتجاه الريح و تستدبرها فتدفعها الريح للأمام تشق الماء محدثة جلبة وصوتا نتيجة تصادمها مع الماء
5) الفلك مزجاة : هذه الفلك برغم ضخامتها وثقلها فإن الله عز وجل سخر أسباب تسهل حملها على المائع ( بقلة كثافتها ) وتحريكها بريح خفيفة باتجاه محدد .
6) الفلك تسبح : الجسم السابح يكون عائما بين مائعين ، يطفو مع حركة على المائع الذي أسفل منه وتكون كثافته أكبر من كثافة المائع الذي فوقه وأقل من كثافة المائع الذي تحته
السفينة : كل ما ينقل البشر [ج] وتطفو كل أجزائها على سطح الماء عند حركتها فلا شيء من بطنها داخل الماء و مقدمتها حادة لتقليل قوة الإحتكاك والتصادم مع الماء فهي تشق الماء اللين فتحدث فيه خرقا وكأنها تنحته أو تقشره ، دلالة على سرعتها في الماء محدثة موجات على جانبيها ( كل سفينة فلك وليس كل فلك سفينة)
سفينة تخترق وتشق الماء
سفينة فنيقية من زمن الحضارة الأشورية ( لاحظ مقدمة السفينة وبطنها كيف يظهر جميعه على سطح الماء )
[د]
[ه]
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ :
ساهم : دخل في مقارعة ونزال بالسهام مع راكبي السفينة حماية لنفسه ، وهو في حالة من التعب والهزال وتغير في لونه بسبب طول سفره برا من نينوى حتى ركب السفينة هربا من الملك فهو هارب وخائف وجائع ومطارد ومرهق إلى حد السقم .
[و]
فساهموا ليست بمعنى دخلوا في قرعة على من يبقى حيا وعلى من سيموت
القرعة فيها نوع من المقامرة بل أشد أنواع المقامرة ( على حياة أو موت ) فهل كان نبي الله يونس عليه السلام يقامر على حياته أو حياة شخص آخر وهو يعلم أنه سوف يموت وهذا بشرع الله عز وجل حرام ورجس من عمل الشيطان .
فأصحاب رأي القرعة ظنوا أن القرعة حدثت من أجل تخفيف الحمولة والوزن على الفلك ... فلماذا لم يفرغوا الحمولة المشحونة بدلا من تفريغها من البشر وكم وزن البشر بالنسبة للحمولة ، فعندما يوضع المرأ في محك بين الحياة والموت طبعا سيختار ذهاب كل ماله إستبقاءا لحياته ؟
ففرضية قرعة البقاء على السفينة لا أستسيغها ... وسيتضح الذي أرمي له لا حقا في السطور التالية إن شاء الله ...
المداحضة: هي أحد أساليب الجدال [ز] لإبطال منهاج الخصم وإنزاله ( الإنتقال به ) من مستوى تفكير معين متعلق به إلى مستوى تفكير آخر جديد
والدَّحَضُ : الزَّلَق والنزول من مكان عال ( متعلق به ) إلى مكان منخفض بسرعة ( كالشمس عندما تتحرك من كبد السماء باتجاه المغرب نزولا )
والزلق للشخص الواقف لا يكون اختياريا بل يكون بسبب
- عدم الإنتباه والتركيز ( تشتت الفكر ، أو إنشغاله )
- وما تحت الأقدام يكون زلقا أو مترنحا ( غير ثابت ) مما يؤدي إلى الإخلال بالتوازن فتجعله بلا ثبات أو عز يمة على الوقوف ويزيد حدة الإنزلاق إذا كان الشخص ضعيفا وهزيلا لا يقوى على حمل نفسه .
ومدحضين : ليس واحد من كان مدحض بل كانوا أكثر من إثنين على الأقل ( أي أن يونس عليه السلام كان واحدا من المدحضين )
ونبي الله يونس عليه السلام جادلهم ودحض فكرة الوثنين الذين على ظهر السفينة وانزلق مدحوضا مستقرا في بطن الحوت .
ففاز في الأولى فدحضهم لأنه كان يساهمهم بنور الله عز وجل وخسر في الثانية عندما ساهمهم بقوته فكان من المدحضين .
... الآن لنجمع الصورة التي حدثت على ظهر الفلك ...
... على ظهر الفلك كان كثيرا من الناس محمولين من ديانات كفرية باطلة وثنية مختلفة فبدأ يونس عليه السلام يداحضهم في آلهتهم ( يجادلهم لإبطال منهاجهم الباطل وهذه مهمة الرسل وغاية وجودهم على الأرض ) فبدأ البحر بالإضطراب ويهوج ويموج حتى أن عددا من الناس زلق في البحر من شدة الحالة التي كانوا فيها فالفلك لم تكن أرضيته ثابتة تحث أقدامهم بسبب هيجان واضطراب البحر الشديد وغزارة الأمطار
فبدأ كل من على الفلك من الناس يدعوا آلهته للنجاة ومن زمرتهم نبي الله يونس عليه السلام
فظنوا ( أصحاب الملل الكفرية الوثنية ) أن يونس عليه السلام هو من جلب لهم بعبادته غضب آلهتهم – وقد يكونوا قد علموا بشأن هروبه من الملك الأشوري ومحاربته لآلهته فهو ( الآبق ) وهذا مما زاد ظنهم فيه - فهموا به ليلقوه من عن ظهر الفلك .
فدخل في مقارعة ونزال بالسهام [ح] مع راكبي الفلك الوثنين حماية لنفسه ودفاعا عنها وهو في حالة من التعب والهزال وتغير في لونه بسبب طول سفره برا من نينوى حتى ركب السفينة هربا من الملك فهو هارب وخائف وجائع ومطارد ، ومن البدهي أنه على أي إنسان في ذلك الموقف أن يأخذ مكانا طرفيا من الفلك ومن يناوؤه يأخذ الطرف الآخر .
.... وكأن شدة سهامهم و كثرتهم وتعبه وهزاله بسبب هروبه والسفر من نينوى إلى الساحل الشامي غلبت نبي الله يونس عليه السلام فانزلق وهو يدافع عن نفسه كالذين انزلقوا من قبل
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ :
فالتقمه
اللقم : أخذ الشيء بالفم بكامل أجزائه دون قضم أو تقطيع بالأسنان بتكسير عظم أو خدش لحم دفعة واحدة والإغلاق عليه مباشرة بسرعة ( ففم الحوت غير مهيأ خلقيا للتقطيع والقضم و الطحن فطريقة أكل الحوت تعتمد على طريقة البلع )
فالتقمه الحوت تخييرا طلبا للغذاء والطعام
اللوم : قد يكون فيه مزيج من المناصحة و التوبيخ و التهديد والتخويف و التأنيب على فعل أو قول ويكون من
- من الغير ( بالقول )
- أو من الذات لنفسه ( كلام النفس )
مليم : بدأ يراجع نفسه ( كلام النفس ) ويؤنبها خائفا من الله عز وجل على ما فعل ، وظن أنه جاء بفعل يستحق اللوم عليه بدليل صيغة اسم الفاعل وكذلك الضمير الذي سبقها ( هو ) فكان هو يلوم نفسه ظانا أنه جاء بفعل من قبل استحق عليه هذا الجزاء .
.... فكان المشهد الذي يعيشه يونس عليه السلام في تلك اللحظات حالة من الفزع والخوف والإضطراب والفوضى تعم على ظهر الفلك ومما زاد إضطرابه وفزعه وخوفه وهوله إنتقاله من ضائقة إلى ما هو أضيق بأحداث متسارعة وانتهاءا بالتقام الحوت له فبدأ يراجع نفسه ويؤنبها خائفا ( من الله عز وجل ) على ما فعل وظن أنه من أردى به إلى المهالك ، ففي مثل هذه اللحظات التي يظن المرأ أنه بين الموت و الحياة يراجع شريط حياته كله بلحظات فيبدأ بلوم نفسه على ما قدم وأخر [ط] .
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
ذلك الرسول الذي بتسبيحه سلم [ي] فتسنم [ك] به أعلى الدرجات وغنم فأنزل الله عز وجل السكينة في قلبه بعدما نال من الله عز وجل الحظوة و الرضا فأضفى عليه الفرح و السرور بعد جزع وخوف وذهول وأذهب عن نفسه الوحشة والوحدة والشجن و الهم و الحزن وأجلى له نورا أضاءت به الظلمات فأنجاه من نازلته و كربه ومن بطن الحوت و جوفه
﴾ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
اللبث : المكوث مدة من الزمن في مكان معين
البطن : الجزء المخفي وراء حاجز مادي كان أو معنوي ويتصل مع العالم الظاهر بطرق وقنوات محكمة بضوابط وقوانين معينة ويقع في المنطقة الأمامية للكائنات الحية المنتصبة أو المنطقة السفلى للكائنات المنبطحة ...
الحوت التقم يونس عليه السلام واستقر في جوف فمه الذي يصل طوله من طول جسمه الثلث أي أكثر من ( 10 م ) تقريبا ويمتد من جهة الناحية البطنية بثنيات وأخاديد ( تتمدد مثل الأكورديون ) قابلة للتوسع لاستيعاب كميات كبيرة من الماء المحمل بالفرائس والصيد ويتوسع ويمتلئ كما لو أنه يشبه البطن
فنبي الله يونس عليه السلام لم يصل إلى معدة الحوت لأن منطقة البلعوم ( حلقة الوصل بين الفم و المعدة ) في الحوت غير مهيأة على ابتلاع أحجام تصل كحجم الإنسان فهي مهيأة على ابتلاع العوالق البحرية الصغيرة فالبعلوم يعمل على ترشيح الفرائس الصغيرة وإبقاء كل ما هو كبير في الفم لطرحه للخارج ولو أن يونس عليه السلام نزل إلى معدته فإن سيل الحياة مستحيلة فيها لإنعدام الهواء و آليات الطحن الميكانيكية و التحليل الكيميائية وامتلاء المعدة بالماء والعصارات والطعام التي تتحرك كخلاط بعملية مستمرة والتي تؤدي في المحصلة على تفتيت حتى العظام و القشور الصلدة بسرعة رهيبة ، ثم إن درجة إرتداد ما في المعدة إلى الفم أصعب من نزوله إليها بدرجات أكثر صعوبة من نزوله إليها .
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون
هذا إن مات نبي الله يونس عليه السلام فسيكون بطن الحوت قبره وبما أن الله حرم أن تأكل أجساد الأنبياء قبورهم فإنه لن يهضم في بطن الحوت وسيبقى فيه كما هو ولو مات الحوت [ل] وتحلل فسيحيط بجسد نبي الله يونس عليه السلام عظام الحوت و هيكله حماية له وحفظا ...
الجامع الصغير وزيادته (ص: 398)
عن أوس بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم و فيه قبض و فيه النفخة و فيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ( صحيح )
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ
النبذ : ( دلالة على أن يونس عليه السلام يكون في الفم [م] ولم ينزل للمعدة ) إبعاد شيء بسرعة وشدة إلى مكان قصي موحش لا أحد سواه فيه ولا أحد يذكره فيه أو يسأل عنه أو يهتم به ( في مكان قصي مهجور ).... لاحظ ( فنبذناه ) بالعراء وهو سقيم بأمر من الله عز وجل تسييرا
... سرعة النبذ دلالة على عدم مكوث يونس عليه السلام طويلا في جوف الحوت ( وإلا كان ستتحطم أضلاعة وتهرس وتحبس أنفاسه ويغرق ) فكان الحوت ظاهرا في لحظة الإلتقام قبر يونس عليه السلام وكان في الحقيقة أداة سخرها الله عز وجل لنجاة يونس عليه السلام إما من القتل أو من الغرق .
... والشدة في النبذ دلالة على حالة يونس عليه السلام و سقمه وعلى الآلية الشديدة التي ألقي بها يونس علسه السلام على الشاطئ العاري ( الأجرد ) من قبل الحوت ، فنبي الله يونس عليه السلام سقيم لا يقوى حتى على الحركة فلو نبذ قريبا من الشاطئ أو في الماء لهلك نبي الله يونس عليه السلام ولكن الحوت اجتهد بوضع نبي الله يونس عليه السلام في مكان آمن وبما انه لا يستطيع الحركة على الشاطئ فسيكون دفعه بواسطة لسانه وفمه مفتوح لأبعد منطقة عن الماء.
... وكان هذا الدفع ( النبذ ) تسيرا ( للحوت ) لمكان محدد دون التواني والتراخي
فعندما اتكل يونس عليه السلام إلى ظنه كان مصيره بطن الحوت ( فتحولت النعم إلى نقم وشدة وهم وغم ) ( فالتقمه الحوت )
وعندما توكل يونس عليه السلام على الله عز وجل سخر الله عز وجل هذا الحوت ( الذي كان سببا في همه وغمه شدته ) وسيره ( لتحويل النقم و الشدة والهم و الغم إلى فرج ونعمة ) ( فنبذناه )
وما بين عملية إلتقام الحوت لنبي الله يونس عليه السلام وما بين عملية النبذ للعراء فترة زمنية لا تصل إلى درجة هلاك نبي الله يونس عليه السلام ، وهذه الفترة الزمنية تتراوح في العادة بين إلتقام الحوت للفرائس والصيد وبلع ما يصلح منها إلى المعدة ثم طرح ما بقي غير صالح للأكل وهي لا تزيد عن نصف ساعة في أحسن الأحول وهي المدة الزمنية التي يستطيع بها الحوت كتم أنفاسه أثناء بحثه عن غذائه أسفل الماء وهي نفس المدة الزمنية بين وجبة وأخرى .
لنتصور آلية إلتقام الحوت لنبي الله يونس عليه السلام
- الإلتقام ( كان تخييرا للحوت للبحث عن طعامه ) كان ليلا [ن] عن طريق الإندفاع من أسفل إلى أعلى لأن العوالق مصدر غذاء الحوت تكون ليلا على السطح
- أثناء عملية الإلتقام دخل ماء ( البحر المالح ) [س] الغير صالح للاستخدام ويونس عليه السلام وكذلك الفرائس مصدر غذائه و جزءا من الهواء في جوف الحوت ( فمه ) لأنه أثناء عملية الإفتراس يستمر الحوت بالإندفاع خارج الماء فاغرا فاه
- تبدأ عملية التصفية و الترشيح و الفلترة حيث يتم إغلاق الفم عدا المنطقة البالينية ثم يطرد جميع الماء المالح عن طريق اللسان وعضلات الفم ولا يبقى إلا الفرائس ويونس عليه السلام وجزءا من الهواء
- تبدأ عملية البلع ( الإختياري ) من خلال البلعوم ، وبسبب صغر البلعوم لا يمر من خلاله إلى المعدة إلا الفرائس الصغيرة ويبقى في الفم في جوفه العميق ( بطن الحوت ) يونس عليه السلام وقليلا من الهواء
- سوف يتم طرح يونس عليه السلام للخارج لأنه لا يصلح للأكل ( ومكان الطرح كان على الشاطئ ليس بعيدا جدا عن مصدر الغذاء ) تسيرا من الله عز وجل للحوت .
لاحظ فاء التتابع ( للزمن والمكان و الأحداث ) و الترتيب السريع ( بلا تراخي ) من أول المقطع إلى فنبذناه
﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴿١٤١﴾ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴿١٤٢﴾ ... ﴿١٤٣﴾ ... ﴿١٤٤﴾ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴿١٤٥﴾
فوقت مدة مكث نبي الله يونس في بطن الحوت هي مدة زمنية لا تتعدى المسافة التي سيقطعها الحوت من مكان إلتقامه قبالة السواحل الفنيقية الشامية وحتى لحظة نبذه إلى نفس السواحل [ع] ولكن في منطقة عراء خالية مكشوفة حيث أن سرعة الحوت الأزرق تبلغ 50 كم / الساعة ( عند اللحظات الإضطرارية ، مثل منافسة الذكور للإناث والهرب من الخطر ) وتبلغ سرعته وقت الهجرة 20 كم / الساعة وفي أوقات الصيد.
العراء : المكان المكشوف الذي لا يوجد فيه شيء يستتر به ، وهي بداية منطقة ساحلية قد تكون مستوية لا يوجد فيها معالم جيولوجية أو جبال أو شجر تستر جسد نبي الله يونس عليه السلام والراجح أنها لا تحتوى على أي من الشجر خلا الحشائش والشجيرات الأرضية لأن الله عز وجل ( أنبت ) عليه شجرة يقطين تستره من أشعة الشمس و يأكل منها و تكون له شفاءا وعلاجا .
السقيم
قبل ان أدرج على معنى سقيم سأعرج على الأحداث التي مر بها يونس عليه السلام على عجالة
1- هروبه من نينوى إلى الساحل الفنيقي الشامي لا يعقب ، خائفا مطاردا .
2- وصوله إلى الفلك الذي سيقله في البحر مرهقا من السفر جائعا متغيرا لونه
3- هيجان البحر وحالة الفوضى التي كانت على ظهر الفلك ومحاولة الوثنين إلقاء يونس عليه السلام في البحر ودفاعه عن نفسه مما زاد إرهاقه وتعبه وإعياؤه وقد يكون سببا في عدم قدرته على الإتزان على ظهر السفينة وسقوطه في البحر
4- التقام الحوت له في حالة من الفزع الشديد و المشهد الغريب والمفاجئ
5- مكوث يونس عليه السلام في بطن الحوت وما لاقاه من ضيق وشدة ثم نبذه إلى العراء ولا أعتقد أن عينيه في مثلما هكذا موقف سهدت ونامت وهذا مما يزيد من حالة التعب والإرهاق ( تعب متراكب على بعضه )
6- الوصف العام كان يونس عليه السلام في حالة شديدة من الإعياء والجوع والإرهاق وهذا معنى السقم
7- فسقم يونس عليه السلام بالصورة الحديثة في توصيف الأمراض أنه غير مصاب بداء بكتيري أو فيروسي معدي
الاستذكار (8/ 422) "عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طيرة ولا هام ولا يعدي سقيم صحيحا وليحل المصح حيث شاء"
8- ومما يؤكد على أن أحد أسباب السقم هو الجوع والعطش والتعب و الإرهاق والخوف يؤدي مجموعها إلى تلبدها على الفؤاد و القلب فيسلخ منه الصحة و العافية فيوهن الجسد ويضعفه ويصيبه الهزال إلى درجة الموت .
- الجامع الصغير وزيادته (ص: 878) " عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها "كان "رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع ثم أمرهم فحسوا و كان يقول : إنه ليرتو فؤاد الحزين و يسرو عن فؤاد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها " ( صحيح ) ... أي أن الأكل يزيل السقم .
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 95) " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب "
- الجامع الصغير وزيادته (ص: 589) " زمزم طعام طعم و شفاء سقم " ... فلأنها طعام وشراب فإنها تشفي السقيم
- الجمع بين الصحيحين (2/ 559) " عن ثابت عن أنس : أن ناسا كان بهم سقم، فقالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا. فلما صحوا ... " ... أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم آواهم ( من خوف ومن تعب ) فارتاحوا وأطعمهم حتى صحوا أي وكأنهم كانت تغشاهم غشية أو إغماءة بين لحظة وأخرى .
- جامع الأحاديث (10/ 232) " عن أبي هريرة رضي الله عنه : أهل الجوع فى الدنيا هم الذين يقبض الله أرواحهم وهم الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإن شهدوا لم يعرفوا أخفياء فى الدنيا معروفون فى السماء إذا رآهم الجاهل ظن بهم سقمًا وما بهم سقم إلا الخوف من الله يستظلون يوم القيامة فى ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله " ... فالخوف والجوع أحد أسباب السقم الذي يتلبد على القلب فيؤثر ذلك على الجسد بالتعب والإرهاق وتغير في اللون... فهؤلاء يجوعون إختيارا لله بالصيام ويخافون الله عز وجل ولا يسمى التقرب لله عز وجل سقم بل هو أسمى آيات الشكر لله على أنعمه من النعم .
السقم : إعتلال وضعف وإعياء عضوي شامل للجسد غير معدي ( لا يضر الغير ) يؤدي إلى تغير اللون والشحوب والهزال والغشيان بسبب حالة من الجوع والعطش والتعب والإرهاق القسري و الخوف من غير الله عز وجل يؤدي إلى عدم صلاح القلب ... فالسقم ليس مرض
المرض : كل ما خفي سببه يصيب القلب مباشرة أو يصيب جزءا محددا في الجسد يؤثر على القلب إنتهاءا فيفسد لأثره كل البدن مما يسبب للمرء توعكا و إعتلالا في الجسد ونقص في الصحة العامة أو إضطراب في النفس ونقصان في الدين قد يصيب أثره الغير . ( وقد تحدثت عن علل القلوب وأسهبت بها في بحث الفرق بين القلب والفؤاد ) .
والشفاء من المرض بالتوجه و اللجوء إلى الله عز وجل ومحاولة تحديد ومعرفة المسبب والوصول إليه ثم التخلص منه و القضاء عليه .
الضعف : صفة خلقية تشير إلى نقص في إمكانيات معينة في المخلوق أو في خلقه تسبب عدم قدرته على القيام باعمال يؤديها القوي