تطوّرت الرياضيّات بشكل كبير وتتطوّر سنة بعد سنة حتى أصبحنا اليوم في عصر الرياضيّات النظريّة التي تبتكر ما يتخطى الواقع الفيزيائي. فهل تطوّرت قوانين الطبيعة مثلما تطوّرت قوانين الرياضيّات؟
من يقرأ تاريخ العلوم كماعرضه الباحثون يكتشف كيف إنّ العلاقة بين الرياضيّات والفيزياء هي أساسيّة بقدر ما هي مربكة وخطيرة وسريّة. لذلك سمّيناها "باللغز".
يطرح علماء منهج العلوم أمرين متناقضين :
-1- منهم من يذكر إنّ تفسير قوانين الطبيعة – الفيزيائيّة على الأخص- لا علاقة له بهذا التطوّر المستمر في الرياضيّات بشكل إستتباعي. بمعنى أوضح : ليس كل إبتكار نظري في الرياضيّات له تطبيقات في مجال القوانين الفيزيائيّة الطبيعية.
-2- منهم من يذكر إنّ هذا التطوّر المستمر في الرياضيّات قد يسهّل تفسير قوانين الطبيعة بشكل أقل تعقيداً مما هو عليه الوضع اليوم.
نحن نعتمد الأمر الثاني, شرط الإنتباه إلى الإطار الخاص لكل مسألة بهدف عدم الوقوع في بعض المحاذير, وأبرزها :
-أ- هناك بعض القوانين والقواعد في الرياضيّات لا علاقة لها بالواقع الفيزيائي مثل بعض قواعد مجموعات كانتور Cantor (حصيلة جمع مجموعتين أو بعض مجموعاته اللانهائيّة) أو مثل "الأعداد المعقّدة" أو المتخيّلة Complex Numbers .
-ب- هناك معادلات رياضيّاتيّة نظريّة (أي معادلات تنتج من معادلات غيرها) تتوصّل إلى قيمات مستحيلة فتضلل الواقع الفيزيائي وتفسّره بشكل غير ما هو عليه في الواقع, أي بشكل غير طبيعي.
ماذا يستتبع ذلك؟
_ قد يؤدّي التبحّر المتمادي في ربط المعادلات الرياضيّاتيّة بعضها ببعض إلى الخروج بمعادلات ورموز نظريّة تبحث عن واقع فيزيائي غير موجود وقد لا يمكن أن ينوجد. بعض الأمثلة :
++ إنّ المعادلات الرياضيّاتيّة التي تفسّر "النظريّة النسبيّة العامة" لأينشتاين تستند بالأساس على رموز رياضيّاتيّة مثل رمز t(i , j) الذي قال عنه أحد أبرز مناصري أفكار أينشتاين البروفسور E.Zahar من جامعة لندن بأنّه رمز "غير قابل لأيّ تفسير فيزيائي. إنّه بمثابة وحدة رياضيّاتيّة بحتة تستعمل لتتناسب مع أهداف معيّنة وهي خالية من أيّ معنى فيزيائي" (من بحث مطوّل له بعنوان" لماذا تفوّق برنامج أينشتاين على برنامج لورنتس", ضمن كتاب جماعي بعنوان : " المنهج والتقييم في العلوم الفيزيائيّة ", منشورات كمبريدج 1976 , ص 270 ).
++ الإعتراف الأخير للعالم البريطاني المقعد س.هوكينغ أمام أكثر من600 عالم فضاء وفيزياء ورياضيّات (تمّوز 2004) عن خطأ نظريّة فيزيائيّة له قبل 30 سنة (عن ان " الثقوب السوداء" هي بمثابة البوابات التي ستنقل الإنسان إلى زمن آخر أو عالم مواز لعالمنا ) تمّ برهانها من خلال معادلات رياضيّاتيّة منطقيّة ومتماسكة أقنع بها العلماء حينها ( أواسط السبعينات من القرن 20 ) . وها هو اليوم يعترف بخطأ نظريته هذه إستناداً على معادلات رياضيّاتيّة غيرها لاشك انها ستكون منطقيّة ومتماسكة ومقنعة للعلماء مثل سابقاتها.
_ قد يؤدّي التنظير الفيزيائي إلى إبتكار أساليب رياضيّاتيّة جديدة تطوّر الرياضيّات أكثر مما تطوّر الفيزياء. وهذا قد يؤدّي إلى تعديل بعض النظريّات الفيزيائيّة المعتمدة.
هل أصبحت العلاقة بين الرياضيّات والفيزياء في الغرب تسير أكثر فأكثر بشكل متباعد, بعدما كانت متلازمة طوال آلاف السنين؟ وهل هذا هو السّر الكبير في عدم تخصيص جائزة نوبل في الرياضيّات كما في باقي العلوم التي تستند في معظمها على معادلات رياضيّاتيّة؟
.... ان الطبيعة الفضائيّة بقيت كما هي منذ أيام الفينيقيين والبابليين والفراعنة وغيرها من الحضارات, فهل نقحم كل ابتكار نظري جديد في الرياضيّات قسراً ضمن مجال هذه الطبيعة البسيطة في وحدتها والمتنوّعة في لانهايتها؟