لقد أودع الله سبحانه وتعالى أسراراً عظيمة فى الماء يعطية مزايا كبيرة من أهمها:
1- سهولة تفككه إلى أيونى الـ +H أوOH وكلاهما أيون نشط ، وهذا التفكك يزداد بزيادة العمق
فى القشرة الارضية وتزداد مقدرة أيون الايدروجين على الدخول فى عمليات كيميائية متعددة بسبب
صغر حجمه، كما يلعب أيون الهيدروكسيل دوراً بارزاً فى اتزان الشحنات للمعادن المختلفة .
2- يعد الماء أفضل مذيب فى ظروف الضغط الجوى بسبب تركيبه الجزيئى ، كما أنه لا يفقد هذه
الخاصية وهو فى طور بخار الماء بل إن بخار الماء فى باطن الأرض تزداد فعاليته فى الاذابة
، كما أنه يذيب نفسه فى الصهير لتكوين مخاليط سيليسية مع المعادن المكونة للصخور .
3- كثافة الماء ولزوجته تتيحان له الحركة داخل مسام الصخور والشقوق والفتحات مما يمكنه
من لعب دور كبير فى إذابة المواد أو نقلها.
4- الماء هو المادة الوحيدة على الأرض التى يمكن أن توجد فى الحالات الصلبة والسائلة
والغازية فى وقت واحد.
5- يذيب الماء ثانى أكسيد الكربون الموجود فى الغلاف الجوى ليعطى حامض الكربونيك ،
وهذا بدوره يتفكك إلى أيونى الأيدروجين والبيكربونات ، كما أنه يذيب بعض الغازات
الأخرى من الجو وهذا يزيد من مقدرة الماء على التفاعل مع الصخور المحيطة به
والقيام بعمليات كميائية متعددة.
ويمكن تلخيص ذلك بالتاكيد على أن الماء هو أكثر السوائل ذات الكثافة المنخفضة
انتشاراً وأكثرها مقدرة على الاذابة وأكثر العوامل الكيميائية مقدرة على النقل
وأفضل العوامل المساعدة فى تفاعلات المعادن السيليكاتية فى الصهير وأفضلها أيضا
فى المساعدة على تحويل الصخور من نارية ورسوبية إلى متحولة .
الماء والأرض:
توصف الأرض بأنها كوكب مائى لتميزه بوجود غلاف مائى يشمل البحار والمحيطات
التى تغطى 71% من مساحة الارض والأنهار والبحيرات والثلاجات وأغطية الجليد
وكذلك الماء تحت السطحى واخيراً بخار الماء الموجود فى الغلاف الجوى . ولذا فإن دورة الماء لها نشاط وتأثير فعال فى العمليات التى تحدث على سطح الارض منذ خلق الله الأرض وهيأها للقيام بواجبها ، ووصف سبحانه وتعالى المراحل الأولى لتكوين الماء عليها بقوله :{أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرسالها}(النازعات: 31-32). وليس هنا مجال الحديث عن أصل الماء على الارض والمرحلة التى ظهر فيها فربما كان هذا موضوع بحث أخر ينبغى القيام به إلا أنه من المناسب الإشارة إلى ما يلفت القرآن نظرنا إليه من أن مصدر الماء الأصلى كان من داخل الأرض فى مرحلة ابتدائية من التكوين وهو ما لم يتوصل إليه العلماء ويؤكده إلا باستخدام نسب النظائر المستقرة للاكسجين والهيدروجين وهو ما يحتاج إلى تقنيات متقدمة جداً كالتحليل الطيفى الكتلى وخلافه ، كما أن علاقة خروج الماء من الأرض وإرساء الجبال عليها لهى من العلاقات التى تحتاج لمزيد من البحث والتدبر.
ألوان المعادن والصخور وعلاقاتها بالماء:
كلنا يعلم الدور الهام الذى يلعبه الماء فى القيام بالعمليات الجيولوجية -
الخارجية منها والداخلية- وهى العمليات التى ينتج عنها تكون المعادن المختلفة
التى تضفى على الصخور ألوانا مميزة ولنبدأ أولا بـ:
العمليات الخارجية (external or exogenous processes) وهى العمليات التى تستمد
الطاقة اللازمة لإتمامها من حرارة الشمس ويندرج تحت هذه العمليات عمليتين أساسيتين هما:
- التجوية weathering
- الترسب sedimentation
ففى العملية الأولى نلفت النظر إلى التجربة الكيميائية - وهى الاكثر تاثيرا على الصخور -
ودور الماء فيها وفعاليته فى تغير التركيب الكيميائى لاكثر الصخور صلابة وما يصحب ذلك
من تغير لالوانها فنرى على سبيل المثال :
أ- تغير معادن الفلسبار - سواء منها القلوى أو الكلسى أو ما بينهما -
وتأتى على رأس المعادن المكونة للصخور أهمية ووفرة إلى معادن الطفلة
clay minerals أو ما يسمى بسيليكات الميهة hydrated aluminium silicate ذات الألوان البيضاء
المميزة.
ب- تغير المعادن الداكنة او المافية mafic minerals مثل البيروكسين والهورنبلند والميكا
إلى معادن ما فيه ميهمة hydrated feromagnesian minerals مثل الكلوريت والتلك،
وتختلف درجات اللون بمقدار استجابة الصخور للتجربة بسبب تركيبها المعدنى
او كثرة الماء او الرطوبة الجوية .
جـ- أكسدة المعادن الحديدية فنرى مثلا تحول البيريت وغيره من كبريتدات المعادن الاقتصادية
لينتج عنه ما يعرف بالجوسان gossans من الاكاسيد المائية ويصحب ذلك تغير واضح فى لون
الصخر الحاوى لهذه المعادن ، بل إن محتوى الماء فى هذه الاكاسيد يلعب دورا بارزا فى
إعطائها الالوان حتى انها تقسم احيانا على اساس هذه الالوان ما بين الاحمر والبنى والاصفر
كما فى حالات الجيوثيت والليمونايت ، وهناك دراسات عديدة لاستخدام هذه الالوان كوسيلة لمعرفة
الاحتمالات الاقتصادية للصخور إلى تسفلها.
د- مثال أخر عن تسبب الماء فى تحويل كثير من المعادن الاولية primary
إلى معادن ثانوية او مشتقة secondary متعددة التراكيب الكيميائية
والالوان فمثلا نجد عنصر اليورانيوم يذوب بفعل الماء من معدنه الاولى
اليورانينيت ذو اللون الاسود الداكن ويتحدد بايونات وكتيونات أخرى ليعطى أكثر
من مائتى معدن ثانوى تتميز جميعها بالألوان الجميلة الزاهية التى تسر الناظرين .
هـ- يذيب الماء كثيراً من العناصر مثل الحديد والمنجنيز ويعيد توزيعها على اسطح
الحبيبات والبلورات مسببا صبغتها staining بالالوان الضاربة فى الحمرة والبنى والبنفسجى .. الخ
و- ينتج عن عمليات الازالة بالغسل leaching نتيجة التجوية الكيميائية فى المناطق
الرطبة غزيرة الامطار ما يعرف بالرواسب المتبقية residual deposits وكلها مكونات من
الهيدروكسيدات والسليكيات المتميهة hydrosilicates ومنها رواسب الكاولين والبوكسيت
(خام الالومنيوم)وبعض رواسب الحديد والنيكل
فاذا انتقلنا الان الى عمليات الترسيب وهى النوع الثانى من العمليات الخارجية فاننا
نلفت النظر الى انها تحدث دائما فى بيئات مائية حيث يتجمع الماء المستخدم فى عمليات
التجوية او الماء الجارى فى احواض ترسيب يتم فيها تكون مختلف الصخور الرسوبية ومن امثله ذلك:
أ- تكون المتبخرات حيث تتبلور المعادن نتيجة عملية التبخر ونرى أثر الماء فى اختلاف
الالوان كما فى حالة الانهيدريت والجيبسوم وتعدد الوان هذا الاخير باختلاف محتواه من الماء.
ب- تكون الرسوبيات الغروية colloidal sediments وهذه الاخيرة تتكون اثناء عمليات
التجوية وتنتقل فى الماء الجارى وتترسب بعد اجتذابها والتحامها بالايونات السائدة
ونظراً لانها تكثر بين عناصر الحديد والمنجنيز والسيليكا فانها تعطى الوانا مميزة للرواسب الناتجة.
جـ- تكون انواع كثيرة من المواد اللاحمة cementing materiat التى تربط بين
الحبيبات المنقولة detrital grains الى احواض الترسيب فتعطى الصخر ألواناً
مميزة كما فى رواسبالحجر الرملى الحديدى ferugeneous sandstone
العمليات الداخلية internal or endogenous processes)) وهى العمليات
التى تستمد الطاقة اللازمة لاتمامها من الحرارة الداخلية للارض وفى هذه
العمليات تتكون المعادن من الصهار magma
ويعتبر الماء من مكونات الصهار التى لها تأثير بالغ على سلوك التبلور
أثناء التفارق الصهيرى بل وفى جميع مراحل التبلور.
واول تأثير للماء يكون على درجات حرارة التبلور لان وجوده ولو بكميات
يسيرة يؤدى الى خفض درجة حرارة التبلور الى مدى بعيد.
كما يؤثر على لزوجة الماجما وبالتالى على صعوبة او سهولة تحركها او صعودها
الى سطح الارض لتكون صخوراً بركانية او تبقى لتتبلور داخل اعماق الارض ،
وفى حالة الصخور البركانية تهرب منها المكونات الغازية والطيارة
ومنها الماء بينما يبقى فى الصخور الجوفية ليدخل فى تركيب كثير من
المعادن وفى كلا الحالتين تتكون صخوراً مختلفة الالوان نتيجة تكون المعادن المختلفة .
كما يؤثر الماء فى اعماق الارض على درجة تاكسد الحديد وهناك علاقة مباشرة بين محتوى
الماء والوفرة النسبية للاكسجين oxygen fugacity فاذا زادت نسبة الحديديك الى
الحديدوز /ferric ferrous ratio وهذه النسبة لها تأثير بالغ على لون الصخور
البركانية فكلما زادت تحول اللون الى الاحمرار بدرجة اكبر . كذلك فإن اللون
الاحمر الذى يكنسبه الفلسبار البوتاسى والذى يرجع الى وجود شوائب حديدية يختفى
لوان هذا الحديد كان مختزلا فى صورة حديدوز ferrous ولا يظهر الا اذا كان الحديد
مؤكسدا (فى صورة حديديك ferric) وكلا الحالتين تتأثران بالوفرة النسبية
للاكسجين والماء . كذلك فإن وجود هذه البيئة المؤكسدة تساعد على ادخال العناصر
التى تعد من المواد الصابغة او الملونة للمعادن مثل الكروميوم .
وفى اثناء تبلور الصهار (الماجما) فى الاعماق فان الماء يدخل فى تركيب انواع كثيرة من
البلورات التى تنفصل من الصهير ووجوده فى الصهار بنسبة اكبر يؤدى الى تكون معادن مجموعات
الامفيبول والميكا وهى معادن متميزة ليست فقط بالونها المرئية بل بظاهرة التغير اللونى
pleochroism تحت المجهر المستقطب.
ومع تقدم عملية التبلور يتركز الماء الموجود فى الصهار ويقوم باستخلاص كثير من العناصر
ذات القيمة الاقتصادية ويركزها فى محاليل حرمائية hydorothemal solutions تترسب منها
فى مراحل لاحقة من التبلور معادن ذات الوان مختلفة وعليه فانه بالرغم من عدم دخول ا
لماء فى التركيب الفعلى لهذه المعادن الا انه قد لعب دوراً اساسيا فى تكوينها
كما تلعب المحاليل الحرمائية دوراً بارزا فى احداث او تغيرات alteration تسبب تغييراً
فى التركيب الكيميائى للمعادن التى تجتاحها والصخور التى تمر عليها محدثة تغيرات بالغة
الدلالة فى الوانها وهو ما يعرف بالتحول المائى hydrothermal alteration والتى ينتج عنها
كثير من المعادن المائية المعروفة ، وتشير كثير من الدراسات الى تأثير كثير من المعادن
الاولية بما تحتويه من مكتنفات مائعة fluid inclusions بما فى ذلك الكوارتز وبعض الفلسبارات
، بل ان هذه المكتنفات المائعة تحمل احيانا كثيرا من الشوائب التى يكون لها تأثير
بالغ على اضفاء الوان معينة على المعادن .
هذه بعض الامثلة لـتأثر ألوان المعادن الاولية أو اثر الماء الاولى المنفصل عن الصهار
فى احداث تغيرات فى الوان المعادن ، ولا شك ان الدور الذى يلعبه الماء فى تنويع المعادن المتكونة
وبالتالى الوان الصخور الناتجة لهو دور كبير بالغ الاهمية ولكن نكتفى بهذا القدر وننتقل الى :
عمليات التحول (metamorphic processes) وهى تعد من اهم العمليات التى تجرى فى القشرة الارضية
بما يصحبها من تغير فى ظروف الضغط والحرارة وما ينتج عنها من تحول المعادن او تغير فى تركيبها
الكيميائى وصفاتها الفيزيائية وتغير فى المظهر الخارجى للصخر.
مثلا المياه التى دخلت المعادن التى ترسبت بواسطة العمليات الخارجية تهرب منها فيتحول الاوبال
الى كوارتز ويتحول الليمونيت الى هيماتيت او ماجنيتيت ، ولا يوجد ادنى شك فى ان الماء
(ومعه ثانى اكسيد الكربون) يلعب دوراً هاماً فى عمليات اعادة التبلور
recrystallization وفى عمليات التحول الكيميائى metasomatism واعادة توزيع المعادن بل
وفى إعادة توزيع العناصر فى داخل المعدن الواحد . ويدخل الماء فى تركيب معظم المعادن
المتحولة فنراه فى تركيب معادن لا تتكون فى غير وجود الماء حتى تحت نفس ظروف الضغط والحرارة ،
وهذه المعادن او معظمها تتميز بالوان الاخضرار وتعطى ما يعرف بالسحنات الصخرية الخضراء
greenschist facies .
ومن الصخور المتحولة المتحولة ذات الالوان الخضراء المتميزة صخور السربنتين والذى لا يتكون
الا بوجود الماء وتأثيره على الصخور الفوق قاعدية.
كما ان صخور الامفيبوليت وهى من اكثر الصخور شيوعاً لا تتكون وتأخذ اللون الاسود الداكن
الضارب للاخضرار الا بوجود الماء.
لقد كان للعلماء العرب والمسلمين الاوائل دورا باروا فى تقديم العلوم الكونية
او المادية بصفة عامة وقد اشاد باسهامهم الكثير من المنصفين الغربيين ..
وهناك العديد من الكتابات فى هذه النقطة بالذات ولكنى اكتفى منها بما قاله
فرانتز روزنتال Franz Rosental فى كتابه “منهاج العلماء المسلمين فى البحث
العلمى ”نقلا عن فون كرامر Von Kramer وهو يصف النشاط العلمى عند علماء
المسلمين فيقول : ان اعظم نشاط فكرى قام به العرب يبدو لنا جليا فى حقل المعرفة
التجريبية ضمن دائرة ملحوظاتهم واختباراتهم فانهم كانوا يبدون نشاطا واجتهادا
عجيبين حين يلاحظون ويمحصون ، حين يجمعون ويرقبون ما تعلموه من التجربة او اخذوه
من الرواية والتقليد.. وكذلك فان اسلوبهم فى البحث اكبر ما يكون تاثيرا عندما يكون الامر
فى نطاق الرواية والوصف وبصفتهم مفكرين ومبدعين فقد اتو باعمال رائعة فى حقلى الرياضيات
والفلك وللسببب ذاته نجح العرب فى باقى العلوم .