حداثة الشعر العربي
الدكتور: عبد الباسط بدر
الأستاذ المساعد في كلية اللغة العربية بالجامعة
الحلقة الأولى
تعد قضية الحداثة من قضايا الشعر العربي الخطرة، إن لم تكن في عصرنا أخطرها على الإطلاق، فهي قضية تطوره وتغير مفهومه وطبيعته وعناصره الشكلية والموضوعية.
وقد اكتسبت هذه القضية أهميتها الخطيرة في عصرنا من كونها تحولت إلى مسوغ أساسي لتغير أي من مقومات الشعر، ولا أستثني من ذلك كيان الشعر كله. وصارت عند بعض المتنطعين غاية وهدفاً.
لأجلها "يُسْتَشْهد" بعضهم، وفي سبيلها يعاني آخرون المتاعب ويعللون فقرهم في الجمهور، وبسببها يتحمل فريق ثالث لعنات مجتمعه غير مبال بها. فهو -كما يزعم- يؤصل قواعد الحداثة ويرود التطوير.
وللحداثة قامت صراعات كثيرة بين أجيال متوالية في هذا القرن، وما زالت تقوم، تشتد تارة وتهدأ تارة.. وربما تظل كذلك إلى ما شاء الله.
فما الحداثة؟ ولم صارت شغل النقاد والشعراء؟ وهل تستند إلى جذور أصلية في تراثنا الأدبي؟
هذا ما سأجيب عنه في الصفحات التالية..
من الحقائق الثابتة أن ظواهر الحياة البشرية، المادية والفنية، تخضع لتطور دائم عبر الزمن. ونظرة سريعة إلى أية ظاهرة منها في زمنين متباعدين تظهر الفروق الكبيرة بين شكل الظاهرة في الزمن الأول وشكلها في الزمن الثاني، حتى ليصح أن يقال: إن الثابت الوحيد في هذه الظواهر هو التطور.
والشعر ظاهرة فنية عريقة، صاحبت الحياة البشرية منذ فترة مبكرة من تاريخها، وستصحبها إلى ما شاء الله، هذا الشعر لا يخرج عن قانون التطور أياً كان زمانه ومكانه، ولا يمكنه أن يتوقف عن التطور دون أن تتصلب شرايينه وتسكت نبضات الحياة فيه، فالتطور -أو لنقل التغير خشية أن بفهم التطور على أنه الاتجاه نحو الأفضل- خيط دقيق يمتد فيه طوال تاريخه، وقد يدق ويرق في عصر من العصور حتى لا يرى منه إلا أثر بسيط، ولكنه لا يغيب نهائياً، والشعر العربي -مهما قيل عن ثباته وتطوره- لا يخرج عن هذه الحقيقة.
وقد أدرك الشعراء العرب هذه الحقيقة منذ القديم، وكان بعضهم واعياً يحس نبضها في شعره، كما أدركها عدد من النقاد القدماء ورصدوها بمقاييس مختلفة، وجعلوها إحدى قضايا نقدهم التطبيقي حيناً والتنظيري حيناًً آخر، واتخذها بعضهم مقياساً في تقويم العمل الشعري.
وفي العصر الحديث تطور قضية الحداثة وتطور مفهومها، وغَدت صاحبة الدور الأساسي في قيام الاتجاهات الشعرية الجديدة وكسب الأنصار والمؤيدين. ولابد -لتوضيح قضية الحداثة- من العودة إلى جذورها، والمرور بها -خطفاً- في الشعر والقديم ونقده، تمهيداً لرصدها في العصر الحديث، والوقوف على بصماتها في الحركات الشعرية المتتالية، وتطروها بين هذه الحركات.
الحداثة في الشعر القديم:
بلغ الشعر العربي في الفترة التي نعرفها عن العصر الجاهلي -درجة عالية من النضج، وتنبئنا الصورة التي وصلتنا عنه أنه حصيلة تطورات فنية لا نعرفها، وأن قواعده بلغت درجة من الاستقرار جعلت الشعراء يخضعون لها حقبة طويلة من الدهر، ولو كانت بدايته المبكرة مدونة لاستطعنا أن نعرف شكل تطوره واتجاهاته.
ولا يعني هذا أن الشعر لم يتطور منذ الفترة المعروفة من العصر الجاهلي، فقد شهد بعض التطور في العصر الأموي، إذ تغيرت بعض موضوعات الشعر، وتطور بعضها الآخر، وظهرت أصداء الحياة الإسلامية في شعر الفتوح وشعر الطوائف السياسية. ولوَّن الشعراء الكبار -ولا سيما جرير والفرزدق والأخطل- قصيدة المديح بألوان جديدة مستمدة من نظرية الدولة الأموية في الخلافة، ومن الظروف المعيشية آنئذ، وثبَّت جرير ألواناً حديثة من قيم المديح استقاها من الإسلام، أما الجانب الفني في القصيدة فالتجديد فيها قليل الشأن إذ بقيت هندسة القصيدة على حالها، وظلت وسائل التصوير بمستواها القديم وطريقتها القديمة، ولم يتطور القاموس الشعري إلا عند الشعراء الغزليين كعمر بن أبي ربيعة وكثيّر، وبقيت الأوزان الشائعة في قصائد العصر الجاهلي مستعملة بالنسبة نفسها تقريباً في العصر الأموي اللهم إلا المقطوعات التي نظمها عمر بن أبي ربيعة في الغزل على أوزان خفيفة والأدوار التي تغنى بها المغنون، وإلا المقطوعات التي أنشدها المجاهدون في معارك الفتح..
وهكذا يمكننا القول: إن ملامح التجديد في العصر الأموي يسيرة وإن أثرها في شكل القصيدة وبنائها الفني محدود، في حين أنها أكثر وضوحاً في موضوعها ومضمونها .
وفي العصر العباسي لا نجد انعطافا حاداً، بل نجد تطويراً أوسع من تطوير العصر الأموي يشمل الشكل والمحتوى معاً، ففي الشكل صفت لغة القصيدة وبلغت درجة عالية من الرشاقة والعذوبة عند عدد من الشعراء، لتلائم الحياة العباسية الجديدة وتناسب الذوق الموسيقي الشائع، وكثرت المقطوعات الصغيرة المنظومة على الأوزان الخفيفة والمجزوءة، وانتعشت بحور كانت ضارمة من قبل كالمضارم والمجتث والمقتضب ، وظهر المتدارك الذي يقال إن الأخفش استدركه على الخليل، ولحق القوافي بعض التجديد فظهر المزدوج والمسمط في فترة مبكرة، ويذكر الجاحظ أن بشاراً كان صاحب مزدوج . كما نجد في دواوين أبي العتاهية وبشر بن المعتمر وابن المعتز عدة مزدوجات. ويذهب الدكتور شوقي ضيف إلى أن المزدوج هو الذي رشح لظهور الرباعيات في الشعرين العربي الفارسي .
ولعل أوسع تجديد شعري عرفه العصر العباسي هو التجديد البديعي وقد سماه معظم النقاد القدماء "شعر المحدثين". ويجمع الدارسين -قديماً حديثاً- على أن بشار بن برد رائد هذا المذهب، وأنه كان يحافظ على توازن دقيق بين العناصر الجديدة والعناصر التقليدية. وأن مسلم بن الوليد طور المذهب من بعده وجعل الشعر صنعة مجهدة، لابد فبها من التريث والتدقيق، ولابد فيها من الصقل والتجويد، وأن أبا تمام أخذ الشوط من بعدهما فبلغ به الغاية.
ويُعَدًّ لمذهب البديع -إن صحت تسميته مذهباً- قدرته على استيعاب الفلسفة ومعظم جوانب الثقافة الأخرى في العصر العباسي وبراعته في المواءمة بين العناصر الفنية و العناصر الفكرية في القصيدة فالأدوات البديعية من جناس وطباق ومشاكلة... الخ تمتزج بالفكرة الفلسفية وتخدمها، والاستعارة تأخذ أطرافاً من المنطق، والقواعد الفلسفية تؤثر على الصورة الفنية عامة، وعلى لغة القصيدة، وتجعل اللون العقلي أقوى من اللون العاطفي. وهذا الضرب من الصناعة الفنية لم يؤلفه الشعر العربي من قبل.
أما محتوى القصيدة فكان متأثراً إلى حد كبير بالحياة الجديدة في العصر العباسي، وكان متصلاً بالثقافة المنتشرة. وقد لحق موضوعات القصيدة تطور واضح: تطور الغزل وذاغت فيه ضروب من الصراحة المكشوفة، وظهرت في بعضه دعوة إلى التهتك والخلاعة وانتهاز اللذات، ومن جهة أخرى ازداد الاهتمام بموضوع الزهد وشاع في عدد من القصائد والمقطوعات. أما قصيدة المدح "الشعر الرسمي" فكان أقل نصيباً في التطور، لأن الشاعر المداح يحرص على التجديد في مضمون القصيدة دون شكلها غالباً، ويستخدم كل ما ترفده به الثقافة من معان جديدة لإضفائها على ممدوحه، وقد جعل البديعيون -ولا سيما أبو تمام- ألفاظ الثقافة ومعانيها معرضاً للمذهب الجديد.
وبوجه عام لم يكن التغيير في الشعر العباسي كبيراً: لم تتغير موضوعاته بل بقيت كما كانت من قبل: المديح والهجاء والرثاء والوصف والغزل، وقد تجددت هذه الموضوعات دون أن تتغير، ولم يكن تجديدها جوهرياً ولا مضطرداً. كما لم يتغير في شكله، بل بقي يعتمد على وحدة الوزن والقافية، ولم تشع المسمطات والمزدوجات، ولم تلق تشجيع النقاد آنئذ ..
وفي الأندلس: كان الشعر يحتذي خطرات الشعر في المشرق الإسلامي إلى حد كبير، حتى قال عنه بعض المشرقيين: هذه بضاعتنا ردت إلينا. ولكن القرون الأخيرة من حياة الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس ولا سيما عصر ملوك الطوائف، شهد تطويراً أوسع في لغة القصيدة وفي عدد في أدواتها التصويرية، وشهد انتشار الموشح بأنغامه القوية وألوانه الموسيقية الجديدة، وسواء أكانت ولادة الموشح في الشرق على يد ابن المعتز أم كانت في الأندلس على يد شعراء أندلسيين لم يتأثروا بالمشرقيين في توليده. فإن الواضح تماماً أن الموشح نما وتطور في الأندلس وأنه بخصائصه الفنية ومقوماته الأخرى -صناعة أندلسية كاملة.
ولا شك أن الموشح هو أوسع تجديد شكلي عرفه الشعر العربي قبل العصر الحديث. وقد تداوله الشعراء في الأندلس وفي عدد من البلاد الإسلامية الأخرى. وعدوه تلويناً في موسيقى الشعر العربي لا يلغي ما قبله بل يرفده بإضافة جديدة -فكتبوا به كما كتبوا بالأوزان الخليلية الأخرى، ولم يجدوا أي تعارض بينهما، وسرعان ما طوعوه لأغراض القصيدة كلها، فكان فيه المديح والوصف والهجاء إضافة إلى موضوعه الأساسي.
وفيما عدا الموشح في الأندلس، والتجديد الذي شهده العصر العباسي لا نجد طائلاً، فقد ضعف الشعر بعد ذلك وأصبح الابتكار فيه ينحدر به درجة بعد أخرى. وشاع التقليد الضعيف، وغدا الشعراء المتأخرون يستهلكون التراث القديم ويحتالون على ألوان البديع ويملؤون بها شعرهم، ولكنها ألوان باهتة ليس لها قدرة كبيرة على التعبير وإبداع الجمال. وأسفّت موضوعات معظم القصائد وأصبحت أقرب إلى العبث واللهو، لذا من العبث أن نبحث عن التجديد والحداثة في تلك الفترة فهو تجديد خير منه العدم .
الحداثة في النقد القديم:
على الرغم من أن الحداثة في الشعر القديم لم تكن شيئًا كبيراً، فإن صداها كان كبيراً، أثار خصومة واسعة، وأنشأ قضية نقدية شغلت النقاد ردحاً من الزمن وهي قضية "الحداثة والقدم".
وقد ظهرت قضية الحداثة والقدم أو ل مرة عند النقاد اللغويين، وكان هؤلاء النقاد يتصدرون ساحة النقد في القرن الثاني الهجري من خلال عملهم في اللغة، وكانوا يجمعون الشعر القديم ويدونونه ويتخذونه مثالاً للغة الفصية الصحيحة. وقد دفعهم اهتمامهم الشديد به إلى منحه هالة من التعظيم واتخاذه نموذجاً أعلى للشعر.
يروي ابن رشيق أن اللغوي الكبير أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير والفرزدق" . ويقول عنه أيضا: "وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين" .
وينقل ابن الأثير عنه هذه الرواية: "قال أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل: لو أدرك يوماً واحداً من الجاهلية لما فضلت عليه واحداً" .
وتعرض كتب الأدب والنقد حكايات كثيرة عن ابن الأعرابي والأصمعي وغيرهما من أعلام اللغويين آنئذ. تتشابه كلها في أظهار حماستهم للشعر القديم لأنه قديم فحسب، منها أن ابن الأعرابي سمع أرجوزة أبي تمام -وكان معاصراً له- التي مطلعها:
وعاذل عذلـتـه في عذلـه فظن أني جاهل من جـهلـه
فاستحسنها وأمر بكتابتها، ولما عرف أنها لأبي تمام قال: خرِّقوه .
ومنها أن إسحاق الموصلي أنشد الأصمعي بيتين يقول فيهما:
هـل إلى نظرة إلـيـك سبـيل فيروى الصدى ويشفى الغلـيـل
إن ما قل منك يكثـر عنـدي وكثـير مـمـن تحـب القليـل
فقال الأصمعي: لمن البيتان؟ قال إسحاق: لبعض الأعراب. فقال الأصمعي: هذا هو والله الديباج الخسرواني. قال إسحاق: فإنهما لليلتهما. فقال الأصمعي: لا جرم، والله إن أثر الصنعة والتكلف باد عليهما .
هذه الحكايات -وأمثالها كثيرة في كتب الأدب النقد- تظهر تعصب اللغويين الشديد للقديم.
وقد نلتمس لهؤلاء اللغويين بعض العذر في أنهم ارتبطوا بقواعد التقنين اللغوي، فالشعر القديم مقياس القاعدة اللغوية وحجتها، في حين أن الشعر المعاصر لهم متهم لاحتمال وقوع اللحن فيه. الأمر الذي جعلهم يشكلون تياراً مضاداً للحديث والحداثة، ولكن لا عذر لهم في مخادعة أذواقهم الفنية.
لذا لم يكن من الممكن أن يستمر النقد على مقاييس اللغويين "الاجتماجية" وبدا أن اتجاهاً مناقضاً سينمو ويأخذ بناصية النقد. ويخبرنا تاريخ النقد العربي أن هذا الاتجاه ظهر على أيدي النقاد المنهجيين الأوائل كابن سلام والجاحظ وابن قتيبة والآمدي والجرجاني وابن رشيق وسواهم. وقد سعى هؤلاء النقاد لإنصاف الشعر المحدث وإسقاط مبدأ "الأفضلية المطلقة للقديم" فأعلن ابن قتيبة في مقدمة مصنفه الكبير "الشعر والشعراء" أنه يرفض مقياس اللغويين المجحف، وأنه سيتخذ مقياساً جديداً يقوم على "الجودة الفنية". قال:
"ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلاً حقه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر على زمن دون زمن، ولا خص بهم قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً، في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثاله يعدون محدثين، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت بروايته" .
وكذلك فعل النقاد المنهجيون الآخرون، فقد اتخذوا "الجودة الفنية" مقياساً يحكمون به على الشعر، لا فرق بين قديمه وحديثه، ولا ميزة لأحدهما على الآخر، ولأول مرة يزاحم شعر المحدثين شعر الأقدمين في مصنفات الأدب والشعر وعند الرواة، ويزيد من هذه المزاحمة ظهور شعراء ذوي مواهب فذة ترفد الرواة والمصنفين بقصائد رائعة كالبحتري وأبي تمام وابن الرومي وأبي العتاهية وأبي فراس والمتنبي وغيرهم.
ويبدوا أن هؤلاء المبدعين عكفوا على الشعر القديم فتثقفوا به ثقافة عالية، ثم أضافوا ثقافة عصرهم. واستخدموا كل ذلك في نسج روائعهم الشعرية، فنجحوا في شد الأنظار إليهم وأثاروا ضجة واسعة وكتب عنهم النقاد والمصنفون، فكان هذا سبباً في إشاعة الاهتمام بالشعراء من أبناء العصر نفسه.
وقد بلغ الاهتمام درجة جعلت ابن المعتز يصنف كتاباً عن طبقات الشعراء ويقصره على الشعراء المحدثين أبناء عصره، ويصرح في ثناياه بأن شعر المحدثين أصبح في عصره أكبر مكانة من شعر القدماء، فيقول:
"ولكننا لا نخرج عن شرط الكتاب (الاختصار) لئلا يمله القارئ إذا طال عليه الفن الواحد، وليحفظ هذه النكت والنوادر والملح، وليستريح من أخبار المتقدمين وأشعارهم، فإن هذا شيء قد كثرت رواية الناس له فملوه، وقد قيل: لكل جديد لذة. والذي يستعمل في زماننا إنما هو أشعار المحدثين وأخبارهم. فمن هاهنا أخذنا من كل خبر عينه، ومن كل قلادة حبتها" .
وهكذا تكشف عبارة ابن المعتز أن الذوق الأدبي في عصره اتجه إلى شعر "المحدثين" وأنه ملَّ "القديم" لأن العناصر الجديدة في الشعر المحدث أقرب إلى أذواق النقاد والمهتمين بالشعر. ولأن هؤلاء النقاد حكّموا حسهم الجمالي، وأن التجديد الذي جاء به المحدثون استطاع أن يهزهم ويشد أنظارهم.
ولكن بعض الدارسين في عصرنا ينظر إلى هذا النقد نظرة مخالفة ويرى أن بجملته كان يرجح كفة القديم على المحدث، وأن النقاد المنهجيين تحيزوا إلى القديم على الرغم من إعلانهم الصريح عن تساوي القديم والحديث عندهم وعن خضوعهما لمقياس الجودة الفنية وحسب . وحجتهم في ذلك أن مقاييس الجودة الفنية التي اتخذوها معياراً للحكم مرتبطة إلى حد كبير بالشعر القديم. وأن شواهدهم على فصاحة اللفظ وروعة التشبيه وحسن الاستعارة ولطف الكناية... الخ مأخوذة من أبيات متفرقة من الشعر القديم، وأنهم في تحليلهم لنماذج من الشعر المحدث يرتبطون -بشكل ما بنماذج من الشعر القديم ويقيسونها بها ويشبهون جودة هذه بروعة تلك.
وأجدني أميل إلى هذا الرأي. ويشجعني على ذلك موقف معظم النقاد المنهجيين من حركة البديع في الشعر، فقد ترددوا في قبولها، وحاكموها بمقاييس الشعر القديم، وعدوها خروجاً على عمود الشعر .
وكذلك الحال في موقف النقاد من محاولات التجديد الشكلية، فقد أهملها معظمهم، وعدها معظمهم محاولات هزيلة تدل على ضعف الشاعرية، وهذه صورة أخرى لارتباط المقاييس الفنية ارتباطاً شديداً بأنظمة الشعر القديم.
فابن رشيق الذي أنصف المحدثين وشعرهم في مثل قوله: "فالمولد المحدث على هذا إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع ومعرفة الصواب، على أنه أرق حوكاً وأحسن دياجة" . نجده بعد ذلك يشكك في المخمسات والمسمطات، وينسبها إلى ضعف الشاعرية فيقول: "وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون فيها، ولم أرى متقدماً حاذقاً صنع شيئًا منها، لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه، ما خلا امرئ القيس في القصيدة التي نسبت إليه -وما أصحها له- وبشار بن برد، قد كان يصنع المخمسات والمزدوجات عبثاً واستهانة، وبشر بن المعتمر، فقد أنشد الجاحظ له أول مزدوجة، ووضع ابن المعتز قصيدة في ذم الصبوح، وقصيدة في سيرة المعتضد، ركب فيها هذا الطريق، لما تقتضيه الألفاظ المختلفة الضرورية، ولمراده التوسع في الكلام، والتملح بأنواع السجع" .
مما سبق نصل إلى النتائج التالية:
أولاً: أن مفهوم الحداثة كان عند بعض النقاد لا يتعدى معناه اللغوي البسيط، أي الشيء الجديد، وبناء على هذا المفهوم رفض هؤلاء النقاد كل جديد يظهر في عصرهم دون أن يميزوا بين الجديد الذي يحمل سمات فنية جديدة، والجديد الذي هو نسخة عما قبله.
ثانياً: أن مفهومها تطور عند نقاد آخرين وأصبح يعني: الجديد الذي يحمل سمات فنية جديدة، وهذا المفهوم هو أساس مفهوم الحداثة في عصرنا الحاضر بعامة.
ثالثاً: أن النقاد القدماء لم يهتموا بمصادر السمات الفنية الجديدة، ولم يربطوا بينها وبين الثقافة الوافدة في ذلك العصر.
رابعاً: أن قضية الحداثة برمتها -كانت في النقد القديم- قضية مضخمة شغلت جزءًا أكبر من حجمها، واستهلكت من الجدل والنقاش أضعاف التجديد الذي جاء به المجددون.
(يتبع)