[ في الماء الجاري ]
الماء الجاري وهو: النابع السائل(1) على وجه الأرض، فوقها أو تحتها كالقنوات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل في حكم الماء الجاري
(1) قد اعتبر المشهور في موضوع الجاري أمرين : النبع والسيلان على وجه الأرض فوقها أم تحتها ، كما في بعض القنوات ، والنسبة بين العنوانين عموم من وجه لتصادقهما في الماء الجاري الفعلي الذي له مادّة ، وافتراقهما في العيون ، لأ نّها نابعة ولا سيلان فيها ، وفيما يجري من الجبال من ذوبان ما عليها من الثلوج فإنّه سائل لا نبع فيه . وعلى هذا التعريف لا يكفي مجرد النبع من غير السيلان في تحقق موضوع الجاري عندهم كما في العيون ، وإن كانت معتصمة لأجل مادتها ، فلا يترتب عليها الأحكام الخاصة المترتبة على عنوان الجاري ، ككفاية غسل الثوب المتنجس بالبول فيه مرة واحدة ، وكذا السائل من غير نبع لا يكون داخلاً في موضوع الجاري كما مر . هذا ما التزم به المشهور .
وقد يقال بكفاية النبع ومجرد الاستعداد والاقتضاء للجريان لولا المانع كارتفاع أطرافه ونحوه ، وعدم اعتبار الجريان الفعلي في مفهوم الجاري وعليه فالعيون أيضاً داخلة في موضوع الجاري ، لأ نّها نابعة ، ومستعدة للجريان لولا ارتفاع أطرافها (1) .
وعن ثالث كفاية مجرد السيلان الفعلي ، وإن لم يكن له نبع ولا مادّة أصلاً .
والصحيح ما التزم به المعروف من اعتبار كلا الأمرين في موضوع الجاري أمّا اعتبار الجريان فعلاً : فلأ نّه الظاهر المتبادر من اطلاقه دون ما فيه استعداد الجريان وقابليته لولا المانع ، فالروايات المشتملة على عنوان الجاري منصرفة إلى ما يكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسالك 1 : 12 .
ــ[88]ــ
جارياً بالفعل ، فلا تشمل ما هو كذلك شأناً واقتضاءً ، ولعلّ من يرى دخول العيون في الجاري ينظر إلى اعتصامها بمادتها ، وهو حق إلاّ أن الكلام فيما هو موضوع الجاري لتترتّب عليه أحكامه الخاصة لا في الماء المعتصم .
وأمّا اعتبار النبع فقد ذكروا أن الجاري لا يطلق إلاّ على ما يكون نابعاً عن الأرض ويكون له مادّة ، وأمّا مجرد السيلان فهو لا يكفي في إطلاق الجاري عليه ، نعم الجاري لغة أعم من أن يكون له مادّة ونبع أم لم يكن حتى أ نّه يشمل الجاري من المزملة والأنابيب ، وما يراق من الحب على وجه الأرض إلاّ انّه عرفاً يختص بما له مادّة ونبع ، وهو الذي يقابل سائر المياه . وقد ادعى الاجماع في جامع المقاصد وغيره على اعتبار النبع في الجاري وذكر ان الأصحاب لم يخالفوا فيه غير ابن أبي عقيل حيث اكتفى بمجرد السيلان والجريان وإن لم يكن له مادّة ونبع (1) .
والتحقيق في المقام أن يقال : إن أراد ابن أبي عقيل بهذا الكلام كفاية مطلق الجريان في صدق الجاري وإن لم يكن لجريانه استمرار ودوام ، كجريان الماء على وجه الأرض باراقة الكوز والابريق ونحوهما ، فالانصاف أ نّه مخالف لمفهوم الماء الجاري عرفاً ، وإن أراد أن الماء إذا كان له جريان على وجه الدوام فهو يكفي في صدق عنوان الجاري عليه وإن لم يكن له مادّة ونبع ، فالظاهر أن ما أفاده هو الحق الصريح ولا مناص من الالتزام به . والوجه في ذلك : أن توصيف ماء بالجريان مع أ نّه لا ماء في العالم إلاّ وهو جار فعلاً أو كان جارياً سابقاً ، لا معنى له إلاّ أن يكون الجريان ملازماً له دائماً ليصح بذلك توصيفه بالجاري وجعله قسماً مستقلاً مع أن الجريان ربّما يتحقق في غيره أيضاً وهو كتوصيف زيد بكثرة الأكل أو السفر لأ نّه إنّما يصح فيما إذا كان زيد كذلك غالباً أو دائماً لا فيما إذا اتصف به في مورد ، وكذا الحال في توصيفه بغيرهما من العناوين . وعليه فلا يصح توصيف الماء بالجريان إلاّ فيما كان الجريان وصفاً لازماً له ولا يفرق في هذا بين أن يكون له مادّة ونبع كما في القنوات وأن لا يكون له شيء منهما كما في الأنهار المنهدرة عن الجبال المستندة إلى ذوبان ثلوجها شيئاً فشيئاً باشراق
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جامع المقاصد 1 : 110 .
ــ[89]ــ
لا ينجس بملاقاة النجس ما لم يتغيّر ، سواء كان كرّاً أو أقل (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشمس وحرارة الهواء ، فهو جار مستمر من دون أن يكون له مادّة ولا نبع . ومنع صدق الجاري على مثله مخالف للبداهة والوجدان كما في شطي الدجلة والفرات حيث لا مادّة لهما على ما ذكره أهله وإنّما ينشآن من ذوبان ثلوج الجبال ، ونظائرهما كثيرة غير نادرة ، نعم ، الجريان ساعة أو يوماً لا يصحح صدق عنوان الجاري على الماء فالنبع والمادّة بالمعنى المصطلح عليه غير معتبرين في مفهوم الجاري بوجه ، نعم يعتبر فيه النبع بمعنى الدوام والاستمرار ، هذا كلّه في موضوع الجاري .
بقي الكلام في اعتبار أمر آخر في موضوعه وهو أن الجريان هل يلزم أن يكون بالدفع والفوران أو أ نّه إذا كان على نحو الرشح أيضاً يكفي في صدق موضوعه ؟ ويأتي الكلام على ذلك بعد بيان أحكام الجاري إن شاء الله .
(1) قد ذكروا أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجاسة ما لم يتغيّر بأحد أوصاف النجس ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجاري بمقدار كر أو أقل وذهب العلاّمة في أكثر كتبه (1) والشهيد الثاني (قدس سرهما) (2) إلى انفعاله فيما إذا كان أقل من كر .
أمّا تنجسه فيما إذا تغيّر بأحد أوصاف النجس ، فقد تكلمنا فيه على وجه التفصيل فراجع ، وأمّا عدم انفعاله بملاقاة النجس إذا لم يتغيّر به وكان بقدر كر فالوجه فيه ظاهر ، إذ الكر لا ينفعل بالملاقاة مطلقاً ، كان جارياً أم كان واقفاً ، وإنّما الكلام في عدم انفعاله بالملاقاة عند كونه قليلاً ويقع الكلام فيه في مقامين :
أحدهما : فيما دلّ على أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجس وإن كان قليلاً .
وثانيهما : في معارضة ذلك لما دلّ على انفعال الجاري بالملاقاة فيما إذا كان قليلاً .