عندما نشاهد الأحياء القديمة و مبانيها القديمة نشعر دائما بتلك البساطة الرائعة ونلتمس التكوينات و القواعد الجمالية التي تتمثل فيها, كالوحدة و الانسجام وحتى الاختلاف (التضاد)، مما يجعل تلك البيئة العمرانية غنية و مشوقة و متجددة دائماً , ففي كل مرة تراها تجدها في حلة جديدة و تشعر بشعور مختلف و تلتمس رؤية أخرى.
لطالما سألت نفسي....
هل كان المجتمع آنذاك يشعر بالجمالية المتمثلة في أبنيته و بيئته؟
هل كانت هناك قواعد جمالية أو هل كانت تلك (العفويات الجمالية) مقصودة و مدركه من قبل المجتمع و المعمار نفسه؟
يقول الكاتب المعماري الأمريكي (البرت بوش- بروان) في كتابه (فن العمارة الأمريكية) "أن الفن المحلي هو عبارة عن مسلمات جمالية ارتضاها المجتمع لنفسه, فأوجد مفردات خاصة به تنبع من متطلباته و تعبر عن احتياجاته ضمن قدراته المالية".
أو يمكننا القول بعبارة أخرى إن المجتمع كان يعي مفهوماً جمالياً نابع منه و يتناسب معه, مع إتاحة الفرصة للتجديد و الإبداع بما يتوافق مع الهيئة العامة و يتواصل معها, ذكر المعماري ( رفعت الجادرجي ) نقطة أخرى, لخصها في ( العلاقة ) بين المالك و المعمار, أو تلك المعرفة بين العائلتين, مما يجعل المعمار واقفاً على جميع شؤون المالك من متطلبات و من رؤى فنية ومن حالة اقتاديه, والأهم هو تلك الحميمة بين المعمار و المالك.
محور ثالث أعتقد أنه أثر على مفهوم الجمال في العمارة الإسلامية ألا وهو, أن المعمار نفسه هو فرد من المجتمع منغمس فيه و متشبع بمعتقداته و فكره, لذا فإن رؤيته الفنية أو الجمالية كانت تمر عبر ذلك المنظور الذي تكون لديه.
إن فلسفة الجمال في العمارة الإسلامية تعتمد على الانتفاعية (الوظيفية ) النابعة من الشريعة الإسلامية أو في إطارها العام, فعندما نحلل المفردات المعمارية الجمالية أو الفراغات في العمارة الإسلامية, نجدها تحمل محاور عدة في أسباب نشأتها و تشكلها و حتى تطويرها.
فالمشربية مثلاً هي عبارة عن معالجات مناخية لحماية الواجهات و الفراغ الداخلي من العوامل المناخية غير المرغوب بها , وأيضا لها هدف أخر ألا وهو توفير الخصوصية للنساء و حماتيهن من أعين الغرباء, ورغم هذين السببين إلا أن المعمار لم يقف على تلك الوظيفتين لهذا المفرد بل حاول أن يخرجهما بطريقة فنية أو جمالية حسب رؤيته الفنية .
أيضا الفناء الداخلي الذي كان أحد المعالجات المناخية , ولكنه أيضا عبارة عن اتصال الساكن مع الطبيعة ( الفراغ الخارجي ) دونما أن تجرح خصوصيته أو يجرح خصوصية الآخرين , ومع ذلك فلقد رأى المعمار المسلم الفناء بمنظوره الجمالي فأوجد النوافير التي أضفت على الفناء لمسة جمالية بهندستها الراقية مع منفعتها كعامل ترطيب للهواء الحار.
هناك نوع أخر من الجمال ( العفوي ) في العمارة الإسلامية الذي ينبع من جمال و روعة الشريعة الإسلامية نفسها كالارتفاعات, فقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا ضرر و لا ضرار ) قد جعل من البيئة العمرانية الإسلامية بيئة متناسقة في الارتفاعات و متمازجة بحميمة رائعة لدرجة أنك ترى الواجهات للمنازل المختلفة كواجهة واحدة تحمل في ظاهرها الكثير من القواعد الفنية و الجمالية.
فالجمال في العمارة الإسلامية هو عبارة عن تحقيق وظائف و متطلبات اجتماعية ضمن الإطار التشريعي( الديني ), أو يمكن القول بأن الجمال في العمارة الإسلامية ذو هدف, وهذا ما يجعل الفن المعماري الإسلامي, فن يجمع الكثير من المتعة و الراحة و الاكتشافات.
لقد ذكر المعماري ( سوليفان ) ( معماري أمريكي ) مقولة مشهور "الشكل يتبع الوظيفة" كقاعدة للعمارة الحديثة, وإن كنت أعتقد أن العمارة الإسلامية قد سبقت ( سوليفان ) في هذا التعريف منذ زمن, لكن دون أن تتجرد من روحها المحلية وهوية مجتمعها, وهذا ما يجعلها مميزة ولها فلسفتها الخاصة.
يمكن أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد الأكثر تحسسا للشيء الجميل، ويمكنه أن يكون الأقل تسبيحا والأكثر جحودا لمبدع الجمال سبحانه. واتفق البشر على حب الجمال والبحث عنه وسطوته على مشاعرهم وأثره على نفوسهم، ولكنَهم اختلفوا على تعريفه أو تفسيره أو إيجاد منهجيةٍ في تمثيله.
ويذهب بعضُ اللغويين أن كلمة"الجمال" يمكن أن تكون واردة من كلمة"الجمل" الذي يَقرن الجمال بالمنفعة، ويجوز أن تكون التعابير الوارد في الذكر الحكيم مثل (سراحا جميلا) أو (صفحا جميلا) أو (هجرا جميلا) ما يرمز للتسامح وروح الإيثار، أما المفهوم المتكرر مرارا فهو (صبرا جميلا) الأكثر ملموسية في رمزيته، و يحمل في طياته دلالات الصبر على الشقاء والمصاعب والشظف، ويرد كذلك مصطلح (السنع) في العربية، بما يعني الجمال, والسنيع كما يقول لسان العرب هو الجميل، ونجد نفس الكلمة ترد في لغات أهل الشمال.
أما "الجمال" الذي نستعمُله للدلالة الفنية ولاسيما في العمارة، فهو يقابل كلمة (أسطاطيقا Esthetics) اليونانية الأصل والتي تعني علم الإحساس والإدراك والمعرفة الحسية. وهو علم قوانين تطور الفن، ويتبوأ موقعا بارزا في الفلسفة وفي علوم الفن ، و يدرس الشكل الجمالي للاستيعاب الفكري عن الواقع الذي يطفو على سطح الحياة اليومية وكذلك الفن ، الذي يُعتبر أعلى شكل في عملية الاستيعاب الجمالي عن الواقع .
ولعلم الجمال جانبان نظري وعملي، الأول يبحث في تطور التطبيق الفني ووضعه في قوانينه المعينة، وهو أساسي في تجسيد الجمال التطبيقي في الثقافة السياسية والنقد الفني. وفي علم النفس نجد الجمال يتلاقى مع المشاعر الرقيقة والأفكار السامية إلى جانب المشاعر الأخلاقية والثقافية.
وأفلاطون من أوائل من بقت تدويناته عن الجمال، و صرح بأن (الجمال والخير والحق حقيقة واحدة فليس بجميل على ما يقوم على الباطل ويأتي السوء منه) وهو الأقرب للمفهوم الإسلامي. ورب معترضٍ على ذلك وحجتهُ بان الخير نافع ولكن الجمال لا يشترط به المنفعة وان الحق يقوم بالبرهان ولا حاجة للجمال بالبرهان .
ويأتي أرسطو ليفرق بين العمل وبين الشكل، فالعمل لديه هو الخير بعينه ولكن الشكل هو الذي يضطلع بالجمال والشيء الجميل يتنزه عن الغرض وهذا لا يعني لديه بأنه يخلو من الفائدة ويصف في ذلك الموسيقى بأنها مرادف للطهارة والسرور والتهذيب.
وهكذا ورد لدى أرسطو الجمال ما أرتبط بالنافع، فهو بالنتيجة خلق مثالي، وأخضع توماس الأقويني Aquin الجمال لمفهوم ديني حيث أعتبر أن أعلى درجات الجمال موجودة في الغله التي تعبر عن أصل الجمال في الفن والطبيعة، ويتجسد الجمال من خلال الكمال والتناسب الصحيح ثم الوضوح.
وقد وجد تفسير الظاهرة الجمالية الاهتمام من الفلاسفة المحدثين من أساطين الفكر والحكمة ومنهم الألمان (هيغل) (غوته) و(كانت) والروسي (تشيرنيفسكي) حتى الأيرلندي (برنارد شو) ممن أسهب في غور كنه الجمال وتفسيره ولاسيما الجمال في العمارة، ولكنهم لم يصلوا إلى أدق التعاريف لكونه ببساطة مجالاً خيالياً رحباً تكتنفه قيم ٌمنها مطلق ومنها نسبي . لقد ظهر علم الجمال الحديث في ألمانيا في القرن الثامن عشر(1720-1785) أو ما يسمونه اصطلاحا "عصر التنوير".
وانبرى لأول مرة (بونكارتم) يشق طريَقه رائدا حتى جاء دورُ (كانت) و(هيغل)، وقد عالج هذا الجيل من الفلاسفة النواحي العاطفية والروحية و الإنسانية له.
وفيما ذهب إليه الأقل شانا منهم بان الحكم الأخير في ذلك هو الفرد فيما يَقبلهُ أو يَرفضُه تبعا لما يمليه عليه خيالهُ وتمشيا مع سجيته وفطرته. ومن العلماء من شرح الجمال "بالراحة البيولوجية" أي شعور الإنسان بالارتياح له ومنهم من قال بان الجمال محسوس وليس ملموس ويرجع الإحساس هذا إلى الصورة وليس للمادة وان تقدير الجمال أمرٌ كيفي لاكمي وهو بذلك لا يقاس بالأعداد أو المقادير، حيث يعتبر (كانت) : ( أن الجمال هو ذلك الذي يكون ممتعا بالضرورة، وهذه المتعة تنبعث من نفوسنا ونحن نُدرك أن هذا الجمال مقطوع الصلة بأية فائدة مهما كانت). وحدد نوعين من الجمال أحدهما حر والأخر تابع، فيكون حرا إذا أنعدم الغرض وتابعا إذا أشار إلى غرض ما.
وجاء بعد كانت (شلر Schiller) ليقول: ( أن العمل الفني لون من ألوان النشاط التلقائي الخالي من الغرض). أما هيغل فقد استفاد من كل الشروحات لمن سبقه بهذا الصدد، وقدم نظرية شاملة لتاريخ الفن كانت بواكير المدرسة الواقعية التي أثمرت تباعا في الفن والعمارة (ولاسيما في شروحات لودوك الفرنسي) بعد انتقادها للرومانسية في فنون وعمارة القرون الوسطى والنهضة.
واعتبر هيغل علمَ الجمال جزءاٌ من التطور التاريخي الشامل عن العالم مبتدئا من الطبيعة ومنتهيا "بالفكر المطلق"، وعلم الجمال هو إدراك ٌ حسي ويحتل أدنى درجةٍ من ظهور (الفكر المطلق). وقد بنى هيغل نظريَته على (صراع الأضداد) أو الديالكتيك المجسد في ثلاث حالات هي (الموضوع these النقيض antithese و التركيب synthese) ،الذي بنت الماركسية عليه فكرَها الجدلي والجمالي.
وفي نفس السياق نجد من الشروح لهذا العلم لدى العرب المحدثين حيث يصف (محمود الشكرجي) ذلك المفهوم في كتابه (الهندسة والمهندسين) قائلا: (إن الإدراك الحسي هو صفة جوهرية في الجمال والصفة الثانية هي النقد الواعي المشتمل على الأحكام القيمية الغريزية المباشرة، أي يشتمل على حالتي اللذة والألم. والمجال الذي يشترك فيه كلٌ من النقد الحسي والنقد الواعي هو المجال الذي توجد فيه الإدراكات الحسية النقدية أو مجال الإدراك النقدي التشوقي وبذلك يصبح علم الجمال هو أدراك للقيم).
ساد الاعتقاد حتى اليوم أن علم الجمال هو إغريقي الأصل وأوربي الفصل قفز إليها فجأة إبان قرون التنوير، ولقد فات الجميع أن العلوم تضمحل، إن لم تجد لها ديمومة قبل أن يغمرَها النسيان، وقد تناسوا بقصد مثلما هو في شؤون الفكر الأخرى بأن المسلمين لم يكن لهم اهتمام بذلك بالرغم من المشاهدات الملموسة على سمو الجانب الحسي المقترن بفنونهم و معالجاتهم الزخرفية الغنية، ناهيك عن دَفَق الفكر الفلسفي الديني والدنيوي في شوطٍ بين الغزالي وابن رشد ، وأفكار المعتزلة ورسائل أخوان الصفا، التي جاءت تبحث في تفاصيل فلسفية للأشكال الهندسية وتشرح لحوصلة العلوم الراقية التي وطأتها الحضارة الإسلامية في القرن العاشر الميلادي.
وقد ثبـّت (هيغل) تلك الصورة السقيمة عن علم الجمال الإسلامي من خلال وجهة نظره في بعض الإنجازات الشحيحة التي اقترنت "بالشعر الصوفي والزخرفة وبعض العلوم الدينية فقط" ، وتبعه رهط كبير ممن أرسى فكرة هيغل في "تكريس الوحدة الإلهية" في علم الجمال الإسلامي، وهم بذلك لم يسبروا غور المدارس الفقهية والفكرية للفنون الإسلامية، وقد سرى مفعول ذلك حتى على "المتنورين" من أصحابنا الذين نقلوا دون أن يعقلوا.
وقد وجدنا تعليق بهذا الخصوص للمستعرب الأسباني المسلم (خوزيه ميغيل بويرتا) الذي ولج المضمار بعد أن استهجن أساتذته ُعليه الخوض في علم لم يولد بعد في الفلسفة الإسلامية ، وقد علق على ذلك (كيف توجد فلسفة وفلاسفة ودين وحضارة عميقة وفن عربي ،لا نزال ننبهر أمامَه في مدننا وفي كل العالم، وكيف لا توجد مفاهيم أو تعاريف عن الجمال . لقد تطلب مني ذلك أن أقرا كلَ ما ورد في التراث من القرآن الكريم حتى الشعر الجاهلي وما كتبه فلاسفة الشرق الكندي والفارابي ومسكويه والتوحيدي ).
وعودة إلى كنه "الجمال" في تراث الإسلام، حيث جاء مقترنا بإحدى صفات الله سبحانه، كما ورد في الحديث النبوي الشريف (الله جميل ويحب الجمال) وجاءت الحظوة به من مصادرها الصريحة في جمال الخلق والإنسان وجمال الطبيعة والكون التي أنعم الله سبحانه بها على البشر. وقد عرف لنا (ابن منظور) ذلك في لسان العرب: (المسلم مدعو إلى الإنصاف بالجمال الذي هو البهاء والحُسن في العقل وفي الخلق والى تنمية إحساسه بالجمال الذي أودعه الله سبحانه في الكون جمال الصورة وجمال المعاني على حد سواء).
فالحظوة بالجمال جاءت من ألوهية مبدعه حيث يقول محمد قطب عن القرآن الكريم (هذا الكتاب لا يمكن بحال أن يكون معادياً للفن ). ويقول في ذلك د.محمد عمارة (الجمال هي آيات الله التي أبدعها وبثها في هذا الكون وأمر الإنسان أن ينظر فيها، إذن فالنظر في هذا الجمال والاستقبال لآيات الزينة وفتح قنوات الإحساس الإنساني على صنع الله هذا هو امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى، وما تعطيل النظريات في آيات الجمال هذه إلا تعطيل للدليل على وجود المبدع لهذه الآيات) .
وفي تقصي رسائل أخوان الصفا أو مناهج الصوفية نجد للجمال شروحا ورأيا يمكن اعتباره منهجا جماليا إسلاميا ارتبط بفهم العقيدة العقلي والأخلاقي، فقد اقترن رأي الإمام أبي حامد الغزالي بان بناء الهم الأخلاقي الموحد على أساس وقيم ومعالم التخلق بأخلاق الله (المطلق) هو بالقدر ذاته رؤية الجمال الحق والتحلي به، وهي المقدمة التي تحوي في ذاتها وحدة الخير المحض والجمال المحض. وبهذا يكون الإمام الغزالي فسح المجال أمام تنوع أشكال الجمال وتباين درجاته أو نسبية تجلياته ومطلق مثاله، واعتبر أن ( لكل شيء كما لا يَليق به وقد يَليقُ بغيره ضده، فان حَسُنَ كلُ شيء في كماله الذي يَليقُ به، وبالتالي فان جمال الأشياء في كمالها الذاتي وكمالها في وحدتها مع ذاتها في ذاتها). مما أسس بدوره لإمكان محبة الجميل والجمال في الوجود عموماً، بما في ذلك في الحسيات تماما بالقدر الذي حولها إلى مقدمة أو إلى درجة منفية فيما هو أكثر سموا ورفعة في جماله وخصوصا في الإدراك العقلي لحقائق الجمال أو الجمال الباطن، ومن هنا رجوع جمال صفات العارفين إلى (علمهم بالله وقدرتهم على إصلاح أنفسهم وإصلاح العباد بالإرشاد والسياسة والتنزه عن الرذائل).
حددت هذه النتيجة جوهرية الجمال الأخلاقي في منظومة الغزالي الفكرية وضرورة تحققها الدائم بصفات المطلق العلمية (العلم) والعملية (القدرة)، أي بكل ما يجعَلهُ يحب الجمال من الموجودات ويزنها بميزان الإرادة المتسامية، محبة الجمال في كل شيء ولو في خلوته وحتى في سور داره، وليست هذه بدورها سوى الصيغة الملموسة لمحبة الجميل بذاته ولذاته ، أو كل ما تحدده رؤية الوحدانية الحقة ، و كل ما يتطابق في جوهره مع محبة الواحد الحق(المطلق) وكل ما يعطي للجمال معناه الدائم في تجليات الوجود من حياة وموت وفناء وبقاء.
ووردت صيغة أخلاقية لممارسة الجمال تدعى (التجمل) نجدها في ثنايا شعر ينسب للإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنه في وصيته لابنه الحسن:
ولا ترّين الناس إلا تجملاٌ نبآ بك دهر أو جفاك خليلُ
ويتعدى المعنى الوصية الشخصية المباشرة إلى كونه خطاب وممارسة اجتماعية جمالية تتداخل مع مفهوم ٍ نفسي للتربية الإسلامية النابذة لنزعات الغرائز وسلطان النزوات وانقلاب الأمزجة، الصادر من الذات إلى الموضوع.
نجد أن للثقافات الشرقية غير الإسلامية مفهوما راسخ َ للجمال يختلف عن الخطاب الجمالي الغربي، ولنأخذ مثلا في المفهوم الجمالي الصيني التي يعتقد فيها بوحدة الإنسان والطبيعة بمفهوم الجمال وأن أسطورة (بان كو) الأزلية لا تزال نافذة ٌحيث تقول بأنه كان كائنا طبيعيا وجد منذ مليوني سنة وكانت السحب من أنفاسه وكان الرعد من صوته وصارت الأرضُ من لحمه والشجرُ من شعره والمعادن ُمن عظامه والمطرُ من عَرَقه والخلائق كلهُا كانت عالقة بجسده.
وعندما ظهرت الكونفوشية عام 500 ق.م كانت تنادي بالتسامي عن طريق تصوير الطبيعة من خلال الإلة والإنسان. والحال نفسُه ينطبق على الفن الهندي حيث الجمال اخذ الجانب العقيدي المتمثل بآلهة الطبيعة وعناصرها كالشمس والأرض والنار والضوء والرياح، ونجد ذلك مجسدا في أسفار (الفيدا) التي حددت حتى الأشكال الهندسية والرياضية لذلك المفهوم من الجمال، ونجد في أسفار (بوبا تشاد) البوذية مفاهيم وحدة الوجود وتناسخ الأرواح والجمال هنا مرتبط بتداخل الآلهة والإنسان وسرمدية الأرواح ،أما قوة الله سبحانه المجردة فنجدها مبثوثة في الطبيعة ثم أخذت بالتدريج شكلا واضحا.
وبذلك نجد أن الجمال قد أخذ في الشرق منحىً روحانياً أما في الغرب فقد اختلف علماء الجمال بين الروح والمادة، فهذا (ديكارت) يضع فواصل بينهما وهذا(لايبنتز) يربط بينهما و(هيغل) يطابق بينهما وبذلك فهم يربطون الفن والجمال بالمنطق مرة مثل عند (بومغارتن) أو بالوجدان مثلما الحال لدى (كانت) أو بالواقع الموضوعي والتاريخي كما هو عند (هيغل) أو ما يسميه الفكر المجسد.
وعلى العموم فان الجمالية الغربية قد ألهمت ثقافة جُلَ معمارينا وفنانينا خلال العقود المتأخرة حتى أصبحنا نعتقد إنها الجمالية الوحيدة المجسدة في فنون العالم، مما دفع الفنان والمعمار غير الأوربي إلى فقدان الثقة بنفسه والى العمل على مسح آثاره وذاكرته البصرية واعتباره نتاج بدائي متخلف واللهث وراء الجمالية الغربية في الفن والعمارة، وقد يتطور ذلك اللهث إلى التبعية الأخلاقية التي تحدد جمال الأخلاق التي بنيت عليها فلسفة المجتمعات الشرقية، والذي ربما يجعل أن من لم يمارس الأخلاقية الأوربية فهو غير متحضر وليس مدركا للجمال الحداثي.
وفي المنحى المادي الذي تبنته الماركسية ونظّرت للجمال فيه منذ بواكير القرن التاسع عشر، وأقرت انه لا توجد حقيقة إلا ما تستطيع الحواس أن تدركه وما لا تدركه الحواس فهو غير موجود أو ساقط من الحساب، وهو ما اختلف مع المنهج الديني والغيبي عموما ومنه الإسلامي الذي يتداخل الجمال فيه مع الإيمان والتقوى، حيث يقول محمد قطب معلقا على ذلك التداخل بين الجمال والفطرة : (لاشك أن هناك حاسة ً في باطن النفس تفطن للجمال و تحسه وتستجيب له ولكنها لا تحسب ولا تقدر و إنما تدركه بداهة بغير تفكير..على طريقة الروح في الإدراك لا على طريقة الذهن ذي الأبعاد والمقاييس ، وقد يتدخل الذهن في تقويم الجمال ووضع شروط له ومقاييس يستمدها في الحقيقة من البداهة الطليقة التي تدرك الجمال لأول وهلة ودون تفكير).
ومما يجدر بنا ذكره هنا أن من خلال نتائج البحوث السيكولوجية الحديثة تبين أن درجات الإحساس الجمالي للبشر يمكن تهذيبَها وصقلهَا وترويضهَا بطريقة تربوية ولوحظ أن ذلك يرتفع بارتفاع درجات التطور الحضري للمجتمعات، وأن الأمر عكسي في حالة البداوة، ويمكن أن يكون هذا سندا لإحدى دعائم النهج الحضاري الذي أنتهجه الإسلام في حركة المجتمعات وهو نبذ البداوة وفكرها جملة وتفصيلا، ليرتبط الإسلام عضويا بالحضارة وجدليا بسمو درجات الإحساس بالجمال الحضري.
والعمارة إحدى المجالات التي طرقها الجمال وتداخلت معه، ويمكن الإحساس بها في عدة عناصر مركبة ومتوفرة، في مثل الصفاء في التعبير وجمال الخطوط وجمال اللون وجمال التكوين والفضاء العماري وجمال المنظر الذي يصحبه سمو الفكرة وسلامة الذوق وحسن الأداء، ونجد صدى كل ذلك في وجدان الإنسان الذي يعتبر المجس الجمالي للأشياء والصورة الأرفع التي جسدها الخالق في هيئته وشكله .
وفي الأعراف الاجتماعية ارتبط الجمال بالفرح، وعلى العكس من ذلك فقد تداخل الحزن بالقبح وتجسد في الاقتران بالألوان، فكانت "أمة الله" الحزينة لا تلبس الملون لتعكس حالة غير جمالية على مظهرها، والتحفت بالسواد وهو اللون غير العاكس للألوان للدلالة على الحزن.
وارتبط الجمال في البناء ليس بمعالجة واجهاته الفنية والتزويقية بقدر ما الشعور بالراحة المناخية والأمان والطمأنينة الأخلاقية بما يضفيه البناء على ساكنيه، وتداخل ذلك الجمال مع الراحة الجسدية التي يوفرها البناء البيئوي المتميز ،الحامي من الحر والبرد وشعاع الشمس المفرط ، مما يعتبر تداخل بين الفلسفة والمنهجية الإسلامية في الموقف من البيئة، وهي دعوة جمالية تأخذ لها صدى واسعا في أيامنا الحاضرة،وكان قد نادى بها الإسلام منذ بزوغه بما يعكس الموقف الجمالي والحي"الروحي" وليس المادي للبيئة ،والذي نلمسه في ظواهر لم تعهدها الأرض كظواهر التلوث البيئي و الانحباس الحراري وكارثة ثقب طبقة الأوزون التي كان السبب وراءَها المفهوم المادي وليس الروحي للبيئة الذي ينعكس من مفاهيم روحية جمالية بالجوهر، وبذلك نجد في المفاهيم الإسلامية للجمال تنعكس في "الإعمار" و يعاكس جملة وتفصيلا مفهوم "الإفساد".
لقد ورد جمال الأشياء بمدلولها الجدلي لدى رؤيتها بالنور الذي هو إحدى صفات الخالق سبحانه، فتداخل مفهوم النور المظهر للجمال و بدونه لا يمكن رؤيته، وأصبح النور يتجسد في صفة الجمال، وعلى العكس من ذلك فقد تداخل الظلام، مع الظلم بما يعنيه من عدم تلمسه، ونجد في ذلك سمو في التعبير والرمزية لا يدانى في لغات أخرى حيث أمتزج الجمال مع الإنصاف والحق والقسطاس واجتناب الطغيان والظلم الذي نبحث عنه جميعا.